لا يكاد يمر يوم دون أن يتابع الجميع تحركات الدولار الأمريكي والأخبار التي تؤثر على قيمته، لما لذلك من أبعاد وانعكاسات على اقتصادات العديد من الدول حول العالم وتأثير على أهم ركائز الاقتصاد العالمي مثل أسعار السلع الأساسية، قيمة العملات الوطنية في عدد كبير من دول العالم، معاملات التجارة والاستثمار العالميين، التضخم وعلى العديد من المجالات الحيوية الأخرى.
ولكن، من أين اكتسب الدولار هذه الأهمية وهذا التأثير الكبير على العديد من نواحي الحياة داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها؟
سنقوم في هذا المقال بالإجابة عن هذا السؤال ونتعرف على حكاية الدولار الأمريكي وكيف أصبح العملة الأقوى والأكثر هيمنة في العالم.
كيف أصبح الدولار الأمريكي العملة الأقوى في العالم؟
نظرة عامة على تاريخ الدولار
الدولار الأمريكي هو العملة الوطنية في الولايات المتحدة الأمريكية ويرمز إليه بالرمز USD أو US$، وقد مر الدولار الأمريكي بالعديد من المراحل في تاريخه وخلال رحلة صعوده إلى عرش العملة الأولى والأقوى في العالم، كانت تلك المراحل على الشكل التالي:
• تم اعتماد الدولار كعملة رسمية للولايات المتحدة في العام 1792 إلا أن أول دولار أمريكي تمت طباعته بصورته التي نعرفها اليوم عام 1914، وذلك بعد أن تم إنشاء بنك الاحتياطي الفيدرالي عام 1913 لمراقبة السياسة النقدية، التأكد من تداول القدر الكافي من العملات، وتوفير الاستقرار المالي الذي يفتقده نظام العملة القائم على الأوراق النقدية الصادرة عن البنوك الفردية الذي كان سائد حينها.
• في تلك المرحلة، تم اعتبار البنك الاحتياطي الفيدرالي بمثابة البنك المركزي في الولايات المتحدة الأمريكي، وقد تم إقرار قانون الاحتياطي الفيدرالي كما بدأت عملية إصدار أوراق بنك الاحتياطي الفيدرالي بفئة العشر دولارات التي تحمل صورة الرئيس الأمريكي آندرو جاكسون Andrew Jackson.
• أصبح الاقتصاد الأمريكي في غضون ذلك أكبر اقتصاد في العالم متفوقا حتى على اقتصاد المملكة المتحدة التي كانت لا تزال مركز التجارة العالمية، استخدمت معظم الدول المتقدمة في تلك الفترة المعيار الذهبي لقياس عملتها وتحقيق الاستقرار في تبادل العملات إلا أن الأمر اختلف مع اندلاع الحرب العالمية الأولي في العام 1914 حيث تخلت العديد من الدول عن معيار الذهب بسبب تضاءل احتياطياتها منه، فلجأت الدول حينها إلى استخدام النقود الورقية لتغطية نفقاتها العسكرية، مما أدى إلى انخفاض قيمة عملاتها.
• دخلت الولايات المتحدة الأمريكية الحرب العالمية الأولى بعد سنتين من اندلاعها، حيث كانت قبل دخولها الحرب تلتزم سياسة الحياد والنأي بالنفس، على الرغم من أنها كانت تقوم منذ بداية الحرب ببيع كميات كبيرة من البضائع الأمريكية لقوات الحلفاء من أسلحة، سفن، مواد حربية ومواد غذائية، كانت تتم تسوية جميع فواتير تلك البضائع والمنتجات بالذهب مما أدى إلى زيادة احتياطي الذهب لدى الولايات المتحدة ليصبح احتياطي الذهب الأمريكي هو الأعلى في العالم.
• حتى ذلك الوقت كانت بريطانيا لا تزال ملتزمة بمعيار الذهب للحفاظ على مكانتها كعملة رائدة في العالم، ولكن مع استمرار الحرب وجدت بريطانيا نفسها مضطرة إلى اقتراض الأموال من الولايات المتحدة لأول مرة خلال السنة الثالثة من الحرب، وقد كانت الولايات المتحدة آنذاك المقرض المفضل للعديد من الدول التي أرادت شراء سندات أمريكية مقومة بالدولار.
• كما فعلت في الحرب العالمية الأولى، أعادت الولايات المتحدة الأمريكية نفس السيناريو ودخلت الحرب العالمية الثانية بعد فترة طويلة من بدء القتال.
قبل دخولها الحرب، كانت الولايات المتحدة بمثابة المورد الرئيسي للأسلحة وغيرها من السلع للحلفاء، دفعت معظم الدول الذهب للولايات المتحدة مقابل ما تستورده منها من سلع، مما جعل الولايات المتحدة تمتلك غالبية ذهب العالم مع نهاية الحرب.
• تخلت بريطانيا أخيرا عن التقيد الصارم بمعيار الذهب في عام 1931 وسط الكساد العالمي الكبير الذي اكتسح العالم في العام 1930 عقب انتهاء الحرب، وقد ترتب على ذلك تدمير الحسابات المصرفية للتجار الدوليين الذين يتداولون بالجنيه الإسترليني، كما سمح ذلك للدولار الأمريكي بأن يتهيأ ليحل محل الجنيه الاسترليني كعملة احتياطية رائدة في العالم.
• بعد الحرب، كان من المستحيل إعادة تشكيل قاعدة الذهب، وذلك لأن الولايات المتحدة كانت تمتلك كل ذهب العالم تقريبا آنذاك.
اتفاقية بريتون وودز Bretton Woods
في شهر يوليو من العام 1944، تم عقد اجتماع تاريخي في بريتون وودز في ولاية نيو هامبشير New Hampshire الأمريكية بين ممثلي 44 دولة من دول الحلفاء وأفضل خبرائهم الماليين لمناقشة النظام النقدي في فترة ما بعد الحرب والتوصل إلى نظام لإدارة النقد الأجنبي بشكل فعال ويراعي مصلحة الجميع.
رأت هذه الدول في ذلك الاجتماع الفرصة مواتية لخلق نظام دولي جديد بعد الحرب العالمية الثانية يستفيد من التجارب الاقتصادية السابقة مثل تجربة معيار الذهب السابق والكساد العالمي الذي تلا الحرب، ويتيح بالإضافة إلى ذلك مجالا لإعادة إعمار الدول بعد الحرب، لقد كان هذا الاجتماع جهدا تعاونيا غير مسبوق للدول التي كانت تقيم حواجز بين اقتصاداتها، لذا سعوا إلى إنشاء نظام لا يتجنب فقط جمود الأنظمة النقدية الدولية السابقة، بل ويعالج أيضا افتقار الدول للتعاون الاقتصادي فيما بينها.
بعد الكثير من المشاورات، تم الاتفاق على عدة نقاط كانت كمخرجات لهذا اللقاء وشكلت بنود اتفاقية بريتون وودز التي عملت على إرساء أسس نظاماً نقدياً دولياً يضمن استقرار سعر الصرف، يمنع التخفيضات التنافسية لقيمة العملات العالمية، ويعزز التعاون الدولي والنمو الاقتصادي، وكانت من أبرز مخرجات اتفاقية بريتون وودز:
1. ربط العملات العالمية بالدولار الأمريكي بدلا من الذهب، وبذلك أصبح الدولار عملة تسوية للتجارة العالمية والعملة الاحتياطية الأولى في العالم.
2. ربط الدولار الأمريكي بالذهب حيث تم تثبيت أونصة الذهب مقابل 35 دولار.
3. إنشاء صندوق النقد العالمي International Monetary Fund (IMF) والبنوك المركزية للحفاظ على أسعار صرف العملات العالمية ثابتة مقابل الدولار.
رسخت هذه الاتفاقية الدولار كعملة عالمية مفضلة وأرست الأساس لهيمنته العالمية، فبدأت الدول الأخرى تراكم الدولارات الأمريكية كاحتياطي صرف، كما بدأت في شراء سندات الخزانة الأمريكية التي اعتبرتها مخزنا آمنا للأموال آنذاك.
ختاماً.
على الرغم من انهيار اتفاقية بريتون وودز Bretton Woods لاحقا بعدما زاد المطبوع من عملة الدولار الورقية عن الحد المسموح به وذلك لتغطية الكميات المطلوبة منه داخل الولايات المتحدة وخارجها، وما ترتب على ذلك من تضخم هائل فاضطر الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت ريتشارد نيكسون Richard Nixon إلى التدخل وفك ارتباط الدولار الأمريكي بالذهب، بل والاتجاه إلى تعويم الدولار، وما تلا ذلك من ظهور للعديد من الاقتصادات القوية على الساحة الدولية في السنوات الأخيرة مثل ألمانيا، اليابان والصين.
لا يزال الدولار الأمريكي حتى يومنا هذا العملة الأكثر هيمنة عالمياً والعملة الاحتياطية الأولى في العالم حيث تمتلك البنوك المركزية العالمية 59% من احتياطاتها بالدولار الأمريكي، حتى تلك الدول ذات القوى الاقتصادية الأكبر في العالم لا تزال تحرص على الاحتفاظ بما يكفي من الدولار الأمريكي ضمن احتياطاتها، مع أن التنبؤات والاحتمالات تزيد يوما بعد يوم حول إمكانية نزول الدولار عن عرش العملة الأكثر نفوذا عالمياً إلا أنه لا زال صامداً حتى اللحظة ويقاوم بكل شراسة.